الثلاثاء، 11 مارس 2008

الوقف الاسلامي

معنى الوقف :
هو أصل يحبس ريعه ويصرف ريعه على أوجه الخير


الوقف الخيري نموذج للتكافل الاجتماعي
الوقف على الذرية وعلى المحتاجين والمعوذين يعد أبرز المظاهر الدالة على توجهات الشرع الحنيف لتحقيق التكافل الاجتماعي، فالوقف يمثل نظاماً اجتماعياً تكافلياً، ذلك أنه يقوم أساساً على مبدأ القيم والأخلاق السامية التي جاء بها الإسلام وحث عليها، فهو ينظر إلى أفراد المجتمع الذين ينضوون تحت ظله بنظرة التكافل والحرص على رفاهيتهم ومتطلبات حياتهم بغض النظر عن الاعتبارات الشخصية والنزعة المصلحية، فهو يغرس التكافل والتعاطف مع الآخرين، حتى ولو لم تكن بينهم معرفة سابقة أو علاقة شخصية ويجسد علاقة أفراد المجتمع ببعضهم في صورة علاقة أعضاء الجسد الواحد ببعضه، وهذا المفهوم التضامني ينبع من أصلين هما:(أولاً) أن المال الله تعالى، والعباد مستخلفون فيه، كما قال تعالى: (وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور33/)، وقوله (مما جعلكم مستحلفين) (الحديد7/).(ثانياً) الدافع الإيماني والرغبة فيما عند الله تعالى من الآجر والثواب الدائم.الوقف سمي وقفاً لما فيه من حبس المال على الجهة المعنية، فهو: تجسيد الأصل وتسبيل المنفعة (نزيه حماد: معجم المصطلحات الاقتصادية ص253)دلت السنة على مشروعية الوقف، فعن عبد ا لله بن عمر رضي الله عنهما، أن عمر أحب أرضاً من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، إني أحببت أرضاً بخيبر، لم أحبب مالا - قط - أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً، غير متمول مالا (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف 982/2 رقم 2586). قال الإمام أحمد: «قد وقف أصحاب رسول الله [، وهو فيهم بالمدنية ظاهرة، فمن رد الوقف فإنما رد السنة (الزركشى: شرح مختصر الخرقي 270/4).وجمهور الفقهاء يرى أن الوقف لازم بمجرد صدوره من الواقف، وليس له الرجوع فيه، ذلك أن النبي [ قال لعمر بن الخطاب] من وقفه: «لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب ولا يورث (رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط من الوقف 982/2).اتفق العلماء على انه يصح الوقف على الأولاد والأقارب، والفقراء والمساكين، وعلى سبل البر من بناء المساجد والقناطر، على كتب العلم والفقه والقرآن، والمقابر والساقايات، وسبيل لله وغيرها.احتفلت أقوال العلماء في إذا بلغت أموال الوقف نصاب الزكاة، فهل تجب فيها الزكاة أم لا؟على ثلاثة أقوال:القول الأول: إن الوقف إذا كان على قوم بأعيانهم، فحصل من مال الوقف ما فيه النصاب، فقد وجبت زكاته. أما إذا كان الوقف على المساكين، فإنه لا زكاة عليهم فيما يحصل في أيديهم حتى لو بلغ النصاب بلا خلاف. وهذا مذهب الحنابلة وقول للشافعية (الندوي: المجموع شرح المهذب 240/5).القول الثاني: انه لا زكاة من مال الوقف وان بلغ النصاب، وهو مروي عن طاووس ومكحول، وهو المفهوم من إطلاق الحنفية، وهو قول للشافعية (الكاساني: بدائع الضائع 9/2).القول الثالث: إن الزكاة تجب في مال الوقف، سواء كانت على معينين أم غير معينين وهو مذهب مالك (المرونة 285/1).ويظهر رجحان ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من وجوب الزكاة في أموال الوقف إذا بلغت الوقف إذا بلغت نصاباً، وكان الوقف على معينين.إن الوقف له دور رئيسي في سد حاجات المجتمع الإسلامي، فأسمى أهداف الوقف ترتيب الأجر والثواب المستمر للعباد في حياتهم وبعد مماتهم، من خلال الإنفاق والتصدق والبذل في وجوه البر. وهذا سبيل إلى مرضاة الله ورسوله، وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار. فالوقف نوع من القربات التي يستمر بها صدقة جارية إلى قيام الساعة، فعن أبي هريرة ]، أن النبي [ قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد يدعو له (رواه مسلم في صحيحه، كتاب الوحية 1255/3 - رقم 1631).ويحقق الوقف مبدأ تكافل المجتمع وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء، ويضمن الوقف بقاء المال وحمايته ودوام الانتفاع منه، ويوفر سبل التنمية عملياً وعملياً بمفهوم تكاملي شامل.من مظاهر التكافل الاجتماعي التي يحققها الوقف، الوقف على المحتاجين والمعوزين. فأسهم الوقف الخيري على هولاء في سد حاجتهم، حيث عمل على تخفيف معاناتهم، وتأمين حياة كريمة لهم ولقد تجلت مظاهر الوقف الخيري على أولئك المعدمين في عدة صور، منها:1 - وقف الرباطات والخانات: وقد أسهمت إلى حد بعيد في تأمين إقامة وبيت لمن لا مأوى له، لا سيما أبناء السبيل الذين انقطعت بهم السبل ولا مأوى لهم.2 - وقف القايات والمطاعم: ويهدف مثل هذا الوقف إلى تأمين المأكل والمشرب لأولئك المعوزين الذين لا يملكون من المال ما يدفع عنهم ضرر الجوع والعطش، ومن أمثلتها: تكية السلطات سليم، والشيخ محي الدين بدمشق، وتكية الحرم الإبراهيم بالخليل.3 - صرف مبالغ مالية ومساعدات عينية: ومصدر هذه الأموال من تلك الأوقاف التي استغلت واستثمرت حتى أصبح لها ريع ينفق على الفقراء والمساكين، وهذا النوع من المساعدة الوقفية يهدف إلى تأمين دخل دوري وثابت لأولئك المعوزين أو العاجزين.أيضاً، تنوعت خدمات الوقف لدور التعليم والمتعلمين، حيث كفلت للمعلمين والمتعلمين شؤون التعليم والإقامة والطعام والعلاج، بل وتأمين أماكن إقامة يأوي إليها المسافرون لطلب العلم.وقد امتاز التعليم الوقفي بمجانيته، حيث أعفى الدارسون من الرسوم المفروضة، ويمتاز أيضاً بعموميته، وبمنظور اقتصادي يجمع دور الوقف ههنا دوراً عظيماً في تنمية رأس المال البشري.

الوقف الخيري وأثره في تاريخ المسلمين .. د.يوسف القرضاوي

المجتمع المسلم مجتمع متراحم متكافل، يرحم الكبير فيه الصغير، ويعطف فيه الغنيُّ على الفقير، ويأخذ القويُّ بيد الضعيف، وهو كما صوَّره الرسول الكريم: كالجسد الواحد ، وكالبنيان يشدُّ بعضه بعضا .
تسود هذا المجتمع عندما يستمسك بتعاليم الإسلام: عواطف خيِّرة، ومشاعر إنسانية نبيلة، تفيض بالخير والبرِّ، وتتدفَّق بالرحمة والإحسان، تجلَّت هذه المشاعر والعواطف فيما عُرف بنظام (الوقف الخيري) عند المسلمين.
وهذا النظام ثابت من عهد النبوة، ومن المعروف أن أول وقف عُرف في الإسلام، هو وقف عمر بن الخطاب.
فقد روى الجماعة، عن ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضا بخيبر، لم أُصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: "إن شئتَ حبَّستَ أصلها وتصدَّقتَ بها". قال: فتصدَّق بها عمر - على أن لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متموِّل. وفي لفظ: غير متأثِّل مالا .
وفي رواية البخاري: "حبِّسْ أصلها، وسَبِّلْ ثمرتها". وفي أخرى له: "تصدَّق بثمره، وحبِّس أصله". وفي رواية للبيهقي: "تصدَّق بثمره وحبِّس أصله لا يباع ولا يورث" .
وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكِّل صديقا له غير متأثِّل. قال: وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر، ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم.
وفيه من الفقه: أن مَن وقف شيئا على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه.
وعن عثمان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رُومة، فقال: "مَن يشتري بئر رُومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟". فاشتريتها من صلب مالي .
فقد سجَّل التاريخ لكثير من أهل الخير والثراء من المسلمين: أنهم وقفوا - بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألاَّ ينقطع عملهم بعد موتهم - أموالهم كلَّها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإعانة المحروم، ومداواة المريض، وإيواء المشرَّد، وكفالة الأرملة واليتيم، وعلى كلِّ غرض إنساني شريف، بل أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولنقرأ هنا فقرات من بيان وزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، الذي ألقاه في مجلس الشعب المصري، مبينا مآثر الوقف الخيري الإسلامي.
قال رحمه الله: (ولقد تأخذ أحدنا الدهشة - وهو يستعرض حُجَج الواقفين - ليرى القوم في نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلوِّ إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم: يتخيَّرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البرِّ يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة نسوق هذه الأمثلة:
وقف الأواني المكسورة
وهو وقف تُشتري منه صحاف الخزف الصيني، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحًا بدلاً منه. وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
وقف الكلاب الضالَّة
وهو وقف في عدَّة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذًا لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف إعارة الحليِّ في الأعراس
وهو وقف لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه. وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تجلَّى في حُلَّة رائقة، حتي يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الزوجات الغاضبات
وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت، ويعدُّ فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء
وهو وقف يُنفق منه على عدَّة مؤذنين، من كلِّ رخيم الصوت، حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتِّل كلٌّ منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعيًا وراء التخفيف عن المريض، الذي ليس له مَن يخفِّف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له مَن يؤنسه.
وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء
وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام!) .
فهذا لون من الإيحاء النفسي للمريض يقرِّب الشفاء، واكتساب العافية. وقد ثبت علميا: أن هذا له أثره الإيجابي في التعجيل بالشفاء بإذن الله.
وقف في بلاد المغرب لمن عجز عن دفع أجرة الحمام
وفي بلاد المغرب: عُرفت أنواع أخرى من الأوقاف، مثل: الوقف على مَن يريد دخول (الحمَّامات العامَّة) ولا يجد أجر الحمَّام، فيأخذ من هذا الوقف ما ينظِّف به جسده، ويقضي وطره.
وقف على نوع مهاجر من الطير
وفي مدينة فاس: وُجد وقف على نوع من الطير، يأتي إلى فاس في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن. كأنما شعر هؤلاء الخيِّرون من المسلمين: أن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء!!
الوقف على القطط التي لا مؤوي لها
ومما ذكره الأستاذ الدكتور السباعي في كتابه (اشتراكية الإسلام): وقف رعاية الحيوانات الأليفة التي لا تجد مَن يطعمها، كالقطط - ولا سيما المصابة بالعمى منها - مثل (بيت القطط) الذي قال: إنه كان إلى عهد قريب موجودا في سوق (ساروجة) بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطة من الفارهات السمان!!
وهكذا سلك الواقفون كلَّ مسالك الخير، فلم يدعوا جانبًا من جوانب الحياة، دون أن يكون للخير نصيب فيه.
وهم بهذا إنما يصدرون عن إحساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى مواطن الحاجة التي تعرض للناس في كلِّ زمان ومكان. بل هي لم تقتصر على الإنسان، حتى شملت الطير والحيوان!!
ولا شكَّ أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبَّهت لتلك الدقائق، في كلِّ زاوية من زوايا المجتمع، وكلِّ منحى من مناحي الحياة. ولم يكفِهم أن يكون برُّهم مقصورًا على حياتهم القصيرة، فأرادوها صدقة جارية، وحسنة دائمة، يُكتب لهم أجرها ما بقيت الحياة، وبقي الإنسان.
المؤسسات الخيرية في تاريخ المسلمين
ومن أبرز الدلائل على رسوخ معنى الخير، ومشاعر البرِّ والمرحمة، وعمق جذوره في تاريخ أمتنا: كثرة المؤسسات التي تُعنى بخير الإنسان، والبرِّ بالإنسان.
ويسرُّني أن أنقل هنا صفحات مشرقة مما كتبه الداعية الكبير العلاَّمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه البديع (من روائع حضارتنا) عن هذه المؤسسات، قال:
(كانت هذه المؤسسات نوعين: نوعا تنشئه الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعا ينشئه الأفراد من أمراء وقوَّاد وأغنياء ونساء. ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدِّد أنواع المؤسسات الخيرية كلَّها، ولكن حسبنا أن نلمَّ بأهمِّها:
فمن أول المؤسسات الخيرية: المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسِّسونها، وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد الملك من أموال بالغة على بناء الجامع الأُموي، مما لا يكاد يصدِّقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال، وما استخدم في إقامته من رجال.
ومن أهمِّ المؤسسات الخيرية: المدارس والمستشفيات. وسنفرد لها حديثا خاصًا إن شاء الله.
ومن المؤسسات الخيرية: بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر.
ومنها: التكايا والزوايا، التي ينقطع فيها مَن شاء لعبادة الله عزَّ وجلَّ.
ومنها: بناء بيوت خاصة للفقراء، يسكنها مَن لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا.
ومنها: السقايات، أي تسبيل الماء في الطرقات العامَّة للناس جميعًا.
ومنها: المطاعم الشعبية، التي كان يفرَّق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريبًا بهذا النوع في كلٍّ من تكيَّة السلطان سليم، وتكيَّة الشيخ محيي الدين بدمشق.
ومنها: بيوت للحجاج في مكة، ينزلونها حين يفِدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمَّت أرض مكة كلَّها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج، لأنها كلُّها موقوفة على الحجاج.
ومنها: حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جدًا بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقُراها، حتى قلَّ أن يتعرَّض المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش.
ومن المؤسسات الاجتماعية: ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور.
ومنها: ما كانت للمقابر يتبرَّع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.
ومنها: ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
ومنها: المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعَدين والعميان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كلُّ ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضًا.
وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب، لصيانة صحَّتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعَدين بمَن يقودهم ويخدمهم.
ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ... فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!
ومنها: مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية (نقطة الحليب) عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عزَّ وجلَّ، وقد كان من مَبَرَّات صلاح الدين: أنه جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كلِّ أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.
ومن أطرف المؤسسات الخيرية: وقف (الزبادي) ، للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لو يصنعوا شيئًا.
وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات: المؤسسات التي أُقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المُسنَّة ترعى فيه حتى تلاقي حتفها).

تنمية الوقف الإسلامي … تجارب رائدة
مؤسسة الوقف من المؤسسات التي لعبت دورا فاعلا في تاريخ الحضارة الإسلامية حيث كان الوقف هو الممول الرئيسي لكثير من المرافق كالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية ومنشآت الدفاع والأمن ومؤسسات الفكر والثقافة.ورغم تراجع دور الوقف إبان حقبة الاستعمار إلا أن الآونة الأخيرة شهدت توجها جادا لتفعيل دور الوقف في المجتمعات الإسلامية.في إطار ذلك التوجه سعت بعض هيئات الأوقاف ومؤسسات البحث في العالم الإسلامي ومن بينها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية والأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت إلى إثراء الساحة العلمية بالعديد من المؤتمرات والندوات في مجال أبحاث الوقف النظرية والتطبيقية وكان من أبرزها التعاون المشترك بين المعهد والأمانة في تنفيذ برنامج توثيق التجارب الوقفية في الدول الأعضاء.ويعد كتاب ( نظام الوقف في التطبيق المعاصر – نماذج مختارة من الدول والمجتمعات الإسلامية-) ثمرة لهذا التعاون قام بتحريره محمود احمد مهدي .ويشتمل الكتاب على تجارب الوقف في سبع دول إسلامية هي المغرب والجزائر والأردن ولبنان والكويت والسودان وماليزيا إضافة إلى تجربة المجتمع الإسلامي في الهند.وعلى الرغم من المحاولات الجادة لإصلاح التشريعات الخاصة بالوقف في دول المغرب والجزائر ولبنان وماليزيا إلا أن مجال الوقف لم يتعد المساجد ولا يضطلع بدور تنموي في هذه البلاد لذا سنسلط الضوء على التجارب التنموية الرائدة للوقف في الأردن والكويت والسودان والهند.
اعمار الوقف بالأردن

تتعهد وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية إدارة الأوقاف وتنظيمها واستثمار أموال الوقف وعقد القروض المالية غير الربوية المتعلقة بمشاريع الأوقاف وتقوم الوزارة بتشجيع الوقف الخيري على جهات البر المتعددة وترسيخ معاني الوقف الإسلامي ودوره في التنمية كما قامت الحكومة بزيادة دعم موازنة الأوقاف حيث بلغت نسبة الدعم 13 مليون دينار أردني في عام 1999 .وتلعب الأوقاف دورا هاما في التنمية الشاملة في الأردن
ففي مجال التنمية الاجتماعية:
تسعى الوزارة لتفعيل دور المسجد والمدارس والكليات الشرعية ودور الأيتام والمراكز الصحية.وفي مجال التنمية الاقتصادية:يشارك الوقف في حل بعض المشكلات الاقتصادية كالمرض والفقر والجهل ويسهم اعمار الوقف في حل قضايا الإسكان وتوفير الأبنية التجارية كما له دور في تنمية الزراعة من خلال المشروعات الزراعية وتأجير قطع الأراضي بهدف الاستفادة منها .ومن ذلك مشروع اعمار مسجد الشهداء بالكرك حيث تم تنفيذ مشروع متكامل يضم مسجدا وسوقا تجارية ومدرسة وقاعة متعددة الأغراض ومكتبة مما ساهم في خلق فرص عمل ومجالات مهنية جديدة كما اثر على مستوى تنمية الوقف وزيادة موارده من خلال التأجير والاستغلال المباشر للسوق التجاري ورسوم دخول المشروع السياحي واستغلال أراضي المشروع الخالية من المباني في المستقبل.وتتنوع صيغ استثمار أموال الوقف ما بين التمويل الذاتي والإجارة والمرابحة والاستصناع والمزارعة وسندات المقايض.وقد استحدثت الوزارة مديرية للتنمية والاستثمارات الوقفية تهدف لتنمية واستثمار أموال الوقف مع توجيه المواطنين لمجالات عديدة للوقف.

الصناديق الوقفية بالكويت

للكويت تجربة مميزة في الوقف بدأت مع استقلال البلاد وتشكيل أول حكومة في تاريخ الكويت حيث انشأ قطاع مستقل للأوقاف فتراجعت المشاركة الأهلية في الإشراف على الوقف إلا أن الانطلاقة الفعلية للوقف كانت في عام 1993 بصدور مرسوم أميري بإنشاء الأمانة العامة للأوقاف والتي استحدثت تجربة الصناديق الوقفية والمشاريع الوقفية.تقوم الصناديق الوقفية بالدعوة لإحياء سنة الوقف من خلال مشروعات ذات أبعاد تنموية تلبي احتياجات الناس وتجديد الدور التنموي للوقف وتطوير العمل الخيري من خلال طرح نموذج يحتذى به حيث يحق لكل صندوق التعاون منفردا مع جمعيات النفع العام التي تشترك معه في الأهداف ويجوز له القيام بمشاريع مشتركة مع تلك الجمعيات وتغطي هذه الصناديق مجالات القرآن وعلومه ورعاية المعاقين والفئات الخاصة والتنمية الصحية وحماية البيئةالمشاريع الوقفية شهدت التجربة الوقفية تأسيس مشاريع وقفية غطت العديد من المجالات مثل إعداد قواعد البيانات ورعاية الحرفيين والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة وثقافة الطفل ورعاية الأسرة وتكريس الإبداع العلمي.
الأسهم الوقفية بالسودان

منذ عام 1989 بدأت هيئة الأوقاف السودانية في استقطاب العديد من الكوادر الإدارية والفنية المؤهلة وحصرت كل الأوقاف وقامت بتوثيقها واستعادت ما اخذ منها بالغصب ووضعت الخطط والبرامج لتنمية الأوقاف رأسيا وأفقيا ومن هذه البرامج الرائدة تجربة الأسهم الوقفية التي أتاحت لصغار المانحين المساهمة في مجال الوقف بإصدار أسهم وقفية يكتتب فيها الواقفون لامتلاك حصة موقوفة منهم في مشروع معين ثم أنشأت الهيئة الشركة الوقفية الأم وهي شركة وقفية قابضة برأسمال مصرح به مقداره 3 مليارات جنيه سوداني ولم يمض وقت طويل حتى استطاعت الهيئة أن تحقق العديد من الانجازات فأنشأت العديد من العقارات الوقفية الحديثة مثل مجمع سوق الذهب وعمارة الأوقاف بالسوق العربي ومجمع أبي جنزير التجاري وسوق النساء بواد مدني.وفي ظل هذه الإصلاحات الواسعة تحولت الأوقاف من مصلحة حكومية تعيش عالة على موارد الدولة الشحيحة إلى هيئة فاعلة مؤثرة تقدم الدعم لمؤسسات التعليم والجمعيات الخيرية وتمنح المساعدات للفقراء.
القروض الصغيرة في الهند
بادرت الحكومة المركزية في عام 1974 بإنشاء برنامج تنمية الأوقاف الإسلامية الحضرية الذي خصصت له منحة مالية مقدارها 500000 روبية هندية يستخدمها المجلس المركزي للأوقاف في تقديم قروض صغيرة لمجالس الأوقاف الإقليمية والمنشآت الوقفية المنفردة لتمويل مشروعات إنماء أملاكها بالمدن وبلغ عدد المشروعات التي مولت بهذا الأسلوب حتى عام 1997 إجمالا 87 مشروعا وبلغ إجمالي المبالغ المعاد تدويرها كقروض حوالي 150 مليون روبية هندية يتم سداد القرض على عشري قسطا نصف سنوي ويقدر متوسط الزيادة في إيرادات الأعيان الوقفية التي استفادت من ذلك التمويل بنسبة 24%.كما قامت هذه القروض بتمويل العديد من البرامج التعليمية لمساعدة المنظمات الطوعية على تنفيذ برامجها في مجال التدريب المهني وتقديم المنح الطارئة للطلاب الفقراء وقد تمكن صندوق دعم التعليم من تمويل 4200 منحة دراسية وتقديم مساعدات طارئة إلى حوالي 686 حالة من حالات الطلاب الفقراء وتقديم الدعم في مجال التدريب المهني إلى 144 منظمة طوعية وبذلك أصبح الوقف مؤسسة فاعلة ومؤثرة في سد الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدى المجتمع الإسلامي في الهند.مثلث الإصلاحيتبين من خلال هذه التجارب أن المحاور الأساسية لجهود الإصلاح في هذه الدول شملت الجانب التشريعي والإداري والمالي.فعلى الجانب التشريعي انطلقت هذه التجارب من إصلاح التشريعات الوقفية بشكل يسمح بالتشجيع على زيادة الأوقاف واستعادة الأوقاف التي تم اغتصابها.وعلى الجانب الإداري كان توجه البعض من الدول نحو النهوض بالدور التنموي للوقف دافعا لنشأة هيئات وقفية مستقلة باستحداث صيغ تنظيمية جديدة تسعى لتنمية الوقف واستثماره والتوعية بدوره التنموي.كما أن مشكلة التمويل تعد من ابرز المشكلات التي عاقت تطور القطاع الوقفي وحدت من كفاءته لذلك كان لابد من الإصلاح المالي من خلال إيجاد آلية إسلامية دولية تسهم في حل مشكلة تمويل القطاع الوقفي وقد تبلورت فكرة إنشاء هيئة إسلامية عالمية للوقف وصندوق استثماري يتخصص في تمويل مشاريع الأوقاف على أسس تجارية خلال مؤتمر وزراء أوقاف الدول الإسلامية في جاكرتا أواخر التسعينات ومازالت المحاولات مستمرة لمتابعة إنشاء هذه الهيئة.ومازال الأمل في مزيد من تجارب ناجحة للدول الأخرى مما قد تبشر بتوجه جاد وجديد نحو إحياء دور مؤسسة الوقف.

وختاماً ...
فالوقف من المعاملات الشرعية التي جاء بها الإسلام وندب إلى فعلها والحث عليها، لما فيه من مصلحة تلحق بالأمة في الدنيا والآخرة، وأنه من المعاملات اللازمة التي لا تنتقص بعد صدورها من الواقف ومن الأهمية بمكان أن تجعل الوقف صالحاً للبقاء والدوام من خلال الإنفاق عليه من غلته، أو من الأموال الموقوفة. وبذلك تمن دوام الدخل وسد حاجات المعوزين من أفراد المجتمع ... وفيما يضمن تنمية رأس المال البشري يوفر الوقف أيدي عاملة متخصصة ومتنوعة في مجالات متخلفة، يفسر ذلك تنويعه لأشكال الوقف والجهات الموقوف عليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ليست هناك تعليقات: